
جورج قرم مفكراً ومناضلاً وشاهداً على وهم صراع الهويّات

جورج قرم مفكراً ومناضلاً وشاهداً على وهم صراع الهويّات
عبد الحليم فضل
الله - المدير العام للمركز الاستشاري للدراسات
والتوثيق
لم يكن الشرخ
بين الشرق والغرب برأي جورج قرم إلّا أسطورياً، فالغرب لا يملك هويّة جوهرانيّة،
بل لا هوية جوهرانيّة بالأساس إلّا لمن أراد صرف الأمور عن مسارها الصحيح وجرّ
الناس إلى العنف. هذه الفكرة التي تلخّص الكثير من مواقف الراحل وآرائه تجاه
الصراعات والانقسامات في العالم، تصلح أيضاً لفهم ما انطوت عليه شخصيّته نفسها من
تعدّد وتنوّع في التجربة والهوية والحضور؛ المنبت الأرستقراطي الذي لم يثنه عن أن
يكون مثقفاً ناقداً وملتزماً ورافضاً لـ«قهر الإمبرياليّة»، والثقافة الفرنسيّة
التي ترعرع فيها دون أن تمنع تعاطفه الشديد مع المدّ الناصري، وإعجابه بالفكر
العربي التقدّمي رغم تشرّبه - كما يقول - لتيارات الفكر الفلسفي الأوروبي.
العروبي حتى
الرمق الأخير وليد شرارة
كان علمانياً في
الفكر والممارسة، لكنه نَسَب إلى الغرب التلاعبَ بالأديان لمواجهة الشيوعيّة
وتأبيد الهيمنة وأدلجة دعاوى التنوير الأوروبي، ولم يتردّد في إظهار موقفه المؤيّد
للمقاومة في لبنان وفلسطين مع أنّها ذات منبت ديني، ورأى في الإسلام والمسيحيّة
قيماً إنسانيّة معادية للعنف الأعمى في السياسة ومحبّذة للعدالة والخير العام في
الاقتصاد. ولم يُخفِ، بالمقدار نفسه، خشيته من الأصوليّات الدينيّة المتشدّدة التي
اجتاحت العالم العربي بل وجدها قطعة في آلة القمع الإمبراطوري لشعوب العالم.
عملَ طويلاً في
مؤسسات اقتصاديّة عربيّة وأوروبيّة، بما فيها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، ومع
ذلك عارض بشدّة الوصفات الجاهزة وسياسات النموّ التي لا تؤدي إلى التنمية، ورأى في
الريع النفطي إحباطاً للتطور الاقتصادي والاجتماعي لبلدان المنطقة. هو خبيرٌ اقتصاديٌّ
دوليّ، لكن أيّ خبير! يرى الاقتصاد جزءاً من المجتمع، ويستعمل التحليل الكيفي أكثر
من الكمّي، ويفهم الوقائع من زاوية الاقتصاد السياسي الذي يركّز على الأسباب
الكامنة خلف الأرقام والظواهر قبل وضعها على مشرحة التحليل الرياضي والإحصائي. هذه
النظرة التي تعطي أسبقيّة لأولويّات الناس وتفضيلاتهم على ما تطرحه النماذج، هي
التي وضعت المفكر الراحل على طرف نقيض من مشروع الإعمار الذي قاده الرئيس رفيق
الحريري، فعبّر عن معارضته الجريئة له، ووجّه نقداً لاذعاً أثبتت صحّته الأيّام
لمشروع سوليدير درّة تاج ذلك المشروع.
حدّثني ذات مرّة
عن موهبته الموسيقيّة وميلِه إلى التخصّص بها، الأمر الذي لاقى معارضة قاطعة من
والده الرسام جورج داود قرم. أراده الأب مهندساً، فكان اقتصادياً ومؤرّخاً. بخياره
هذا ربما وقف في منتصف الطريق، أخذ من الموسيقى الانسجام بين ميول واتجاهات
متعدّدة في سلّم متآلف، وكان له من الهندسة عمارة فكريّة تقوم على أعمدة قويّة في
السياسة والاقتصاد والتاريخ والاجتماع، ومنظورٌ شاملٌ للأشياء. هكذا حمل في سلّته
حزمة من التوجّهات التي لا يفي أيّ واحد منها بغرضه في غير اتساقٍ مع غيره:
التنمية مشروطة بالإصلاح، والإصلاح المتكامل مع استقلال في القرار ومقاومة
للهيمنة، والديموقراطيّة الحقيقية المتعارضة مع الشموليّة في التفكير والتقسيم
الهويّاتي للمجتمع وتطييف السياسة حتى بغطاء التوافقيّة.
في لقائي ما قبل
الأخير به قبل مرضه، أهداني كتاباً حمل اسم والده، حافلاً بلوحات الأب ورسوماته
ومقالات عنها. سألتُ نفسي كيف لهذا الفنان أن يوقف تعليمَ جورج ذي السنوات الأربع
الموسيقى بعدما اكتشف موهبته فيها. قد تكون الإجابة في الكتاب نفسه في رسم ذاتي لم
يكمله صاحبه عن قصد، يُظهر نفسه فيه متحدّياً العالم، لكن يده اليمنى حجبت في
اللوحة. يعبّر ذلك ربما عن قلق الفنان والقلق من الفن. قلقٌ لم يشأ الوالد أن
ينقله لابنه. فلحظة الفن (أو الأدب)، بهذا المعنى، هي لحظة انقطاع لا وصل، تبدأ
حين تعجز اللغة والمعاني المألوفة عن تصوير الأشياء وإبرازها. قد يكون لجورج الابن
رأيٌ آخر، فالموسيقى بنظره هي الشيء الوحيد الذي يمكن، ربما أكثر من الأدب والرسم،
أن يظهر المعاني التي تشكّل منابع الإلهام (والألم) في الحياة من خلال محاكاة فرح
الطبيعة: «حفيفُ أوراق الشجر وزخّاتُ فوّارات المياه»، والملاحمُ العسكريّة
والسياسيّة. هي أيضاً جسرُ عبورٍ بين الحضارات والثقافات ولحظةُ تواصل لا انقطاع.
فالموسيقى الأوروبية عبّرت بجلال، كما يرد في كتابه «تاريخ أوروبا وبناء أسطورة
الغرب»، عن الذهول الذي ألمّ بالأوروبيين أمام ما اكتشفوه من ثقافات أخرى، وأنماط
مختلفة من العيش عن تلك التي عهدوها.
يحتاج الإصلاح
والنهوض في بلادنا إلى عِلمِ العَالِم، لتلمّس ما هو ممكن من برامج وسياسات ووقائع
متينة، وإلى خيالِ الفنّان لتجاوز اللامعقول فيها ولتخطّي ما تنطوي عليه السياسة
من ظلم وجبروت. لقد قاربتَ أيها الصديقُ الراحل ذلك في تجربتك الوزارية القصيرة
وعدت لتسكب حبرها في كتابك «الفرصة الضائعة في الإصلاح المالي». وبوسعنا أن
نُصدِقَكَ القول بأن الفرصة ما زالت ضائعة مع أنها ماثلةٌ للعيان، وأنّ اليدَ
الخفيّة ما زالت تعمل ضدّ هذا البلد ليس لأنها خفيّة حقاً، بل لأنها مركونة في
ظلام السياسات.
لكنّك لو كنت
بيننا اليوم، لأخذتَ وقتاً مستقطعاً من أروقة السياسة ودهاليزها ولصرفت عن
جدالاتها وجهاً، ولأصغيت لوقع النار والدم في غزّة، تقول لأهلها ومقاوميها بلا
تردّد: نحن معكم... لن نترككم... لستم وحدكم، ولربّت أكتاف مقاومي جبهات الإسناد
الذين يبدّدون بدمهم وهم صراع الهويّات، ولغرست وردة في روضة كل شهيد منهم...
ولتتبّعت خطواتهم دون كلل حتى آخر خيط الدم.