الإثنين ٠٦ / أكتوبر / ٢٠٢٥
من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية

أخبار عاجلة

طوفان الأقصى ينتقل بشكلٍ مُتسارعٍ إلى الضفّة.. ويعدّ استقبالًا حارًّا لترامب وصفقة قرنه.. وضربات مُوجعة بل قاتلة لنتنياهو.. إليكُم التفاصيل

في وداع جورج قرم المفكر العروبي الثابت والمتواضع

في وداع جورج قرم المفكر العروبي الثابت والمتواضع

في وداع جورج قرم المفكر العروبي الثابت والمتواضع

بقلم: بدر الإبراهيم (السعودية)

لا أجد عادةً القدرة على الكتابة عن رحيل الأحبَّة، ذلك أن اللغة لا تكون مطواعة بشكل كافٍ للتعبير عن مشاعر الحب والاحترام والتقدير، والإحساس بالفقد والحزن، ولكنني شعرت بحاجة إلى الكتابة عن رحيل جورج قرم، ربما لأن هذا التعبير البسيط يسهم في تعزية الذات بهذا الرحيل. لجورج قرم تأثيره الفكري عليَّ وعلى عدد من الأصدقاء، وله تأثير شخصي بحكم العلاقة التي امتدّت لسنوات، واستمرار التواصل رغم ظروف قاهرة لم تسمح باللقاء في السنوات الأخيرة، وهو ما يجعل للرحيل في هذا التوقيت غصّةً أكبر.تعرّفت إليه عبر كتبه حين كنت في المرحلة الثانوية، وقد فتحت لي كتاباته آفاقاً في تحليل الأزمات التي يمرّ بها الوطن العربي وفهمها، ولكن أبرز إسهاماته في تقديري كانت أعماله في تفكيك المركزية الغربية، والأساطير المؤسسة للغرب التي يشرعن عبرها هيمنته. عدد من المفكرين العرب تناولوا قضايا الاستشراق والمركزية الأوروبية، ولكن قرم كان أفضل من فصّل في تشريح الصور النمطية التي بناها الغرب عن نفسه وعن «الآخر»، وخاصة العربي والمسلم، ونقدها بنهج معرفي متميز. ركز قرم في مشروعه الفكري على رفض التفسير الديني للنزاعات السياسية، وكتب في ذلك كتاباً خاصاً، وقد كانت مهمة ومفيدة لي الاستعانة بتفكيكه لهذا المنحى في مقاربة أحداث العشرية الماضية في المشرق العربي، حين أصرّت جموع الطائفيين ووسائل الإعلام المؤيدة لهم على جعل المذهبية عنوان الصراع الأوحد، لأنها أداتهم في التعبئة والتحشيد.

عرفته شخصياً في بيروت. حصلت على رقم هاتفه وتواصلت معه مباشرةً، ورحّب بي كثيراً. أهديته كتابين ألّفتهما، وفوجئت بعد مدّة قصيرة برسالة منه يخبرني فيها رأيه الإيجابي فيهما. استشرته لاحقاً في عدد من الأوراق البحثية التي كتبتها، وكان دائماً يعطي الأولوية لقراءتها وإبداء الرأي رغم انشغالاته. كنت كاتباً شاباً، وكان مفكّراً عربياً معروفاً ووزيراً سابقاً وأستاذاً جامعياً، ولكنه كان متواضعاً بما يكفي لمنحي من وقته، ومراجعة كتاباتي وتقديم النصح. كان لشخص مثله بإنتاجه الفكري الغزير، ومكانته السياسية والاقتصادية أن يمشي مختالاً، ويرفق اسمه بالألقاب الفخمة، وينتقي من يمنح وقته لهم، ويتكلّم بمنطق الأستاذية، ويحوّل أي نقاش إلى محاضرة، كما هو حال بعض المثقفين، ولكنه كان يتصرّف بعفوية ودون تكلّف. لأنه متواضع، لم يصطنع التواضع، وهذا ما يلمسه من يعرفه من طريقة تعامله وتواصله. كان النقاش معه سلساً، ويمكن أن تختلف معه فيستمع إليك، ويرى فكرتك جديرة بأخذها في الحسبان، ودافعاً لمراجعة رأيه.

حين طلبت منه كتابة مقدمة كتاب قمت بتحريره والمشاركة فيه مع مجموعة من الشباب العروبيين، أبدى استعداده دون تردّد، وراجع الأوراق البحثية وأعطى ملاحظاته القيمة، وكتب مقدّمة الكتاب. ركّز في حديثه معي على ملاحظته استعانة بعض الأوراق بالمصادر الغربية والمفاهيم الفلسفية الغربية بكثرة، وقد كان غير مرتاح لهذا الأمر. قد يبدو هذا غريباً بعض الشيء لشخص متشرّب لفلسفة التنوير، وينشر كتبه بالفرنسية، ولكنه كان مهجوساً ببناء إطار إدراكي ومفاهيمي عربي مستقلّ للتعامل مع الأزمات العربية، وكان يرى أنّ دورنا يجب أن يكون إنتاج معرفة عربية تتعامل مع واقعنا، لا استيراد مفاهيم غربية.

عاصر جورج قرم حقبةً ممتدّة منذ نهاية التجربة الناصرية، انتقل فيها العرب بحسب وصفه «من دينامية الفشل إلى التدمير الذاتي»، ولكن هذا لم يغيّر من قناعته بضرورة عدم الاستسلام للإحباط. كان حزيناً على واقع العرب، ولكن حزنه كان مشوباً بالأمل في نهضة تأتي ولو بعد حين. لم يكن ممكناً للإحباطات والإغراءات أن تجرفه نحو موقع آخر يخالف مبادئه وقناعاته، وكان مستعدّاً لدفع الثمن بشكل عملي، كما فعل في مواجهة الفساد المالي ونهج الاستدانة والتخبّط المالي حين تبوّأ منصبه الوزاري. إنّ ثباته على مبادئه العروبية، وإصراره على التخندق في موقع مقاومة الاستعمار والاحتلال، وتأكيده بأن فلسطين بوصلته، مع احتفاظه بروح نقدية لا تغضّ الطرف عن الأخطاء والإشكالات، كانت ولا تزال ملهمة لأي مثقّف مبدئي.

يمكن الحديث طويلاً عن جورج قرم، فللحديث عنه جوانب عدّة، من مشروعه الفكري، إلى رؤيته الاقتصادية المتضادّة مع العولمة النيوليبرالية، ومواجهته الشجاعة لنهج رفيق الحريري المالي والإداري، ولكن من يعرفه يجد من الضروري الإضاءة على جوانب شخصيته المكملة لطرحه الفكري ونهجه السياسي. كان حريصاً على أصدقائه ومن يحبّهم، ويبادر بالسؤال عنهم والتعبير عن اشتياقه لهم، وكنت محظوظاً أن غمرني بلطفه ونصحه.

رحيله خسارة شخصية لكل محبّيه، أمّا طروحاته، فستبقى معنا لنستفيد منها في إنتاج فهمٍ وتحليلٍ وحلول.


موضوعات ذات صلة