الإثنين ٠٦ / أكتوبر / ٢٠٢٥
من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية

أخبار عاجلة

طوفان الأقصى ينتقل بشكلٍ مُتسارعٍ إلى الضفّة.. ويعدّ استقبالًا حارًّا لترامب وصفقة قرنه.. وضربات مُوجعة بل قاتلة لنتنياهو.. إليكُم التفاصيل

أفكار للخروج من مأزق لبنان الوجودي : الموقف من إسرائيل، المقاومة وسوريا

أفكار للخروج من مأزق لبنان الوجودي : الموقف من إسرائيل، المقاومة وسوريا

أفكار للخروج من مأزق لبنان الوجودي : الموقف من إسرائيل، المقاومة وسوريا

د. ساسين عساف 

يمرّ لبنان، الهويّة والدولة والكيان والرسالة، في مأزق وجودي خطير لم يشهد له مثيلاً من إعلان دولته في العام 1920..

لن يكتب للبنان الإستمرار إلّا بإرادة جميع اللبنانيين،هويّة ودولة وكياناً جغرافياً كما هو وارد في الدستور، ومجتمعاً تعدّدياً، ووطن رسالة في بيئته العربية خصوصاً والمشرقية عموماً.

رسالته الحضارية في الحياة معاً إنحسرت بسبب ما أفرزته النزاعات الداخلية من حالات انكفاء ونزوح وهجرة ما أدّى إلى تفكّك المجتمع وتحوّل التعدّدية إلى أعداد متناثرة ومتنافرة.

دولته المركزيّة شلّت مؤسّساتها وتحلّلت وضعفت بنيتها الدستورية (السلطات الثلاث) وفقدت شرعيّتها الميثاقية وسلطتها السيادية، الأمنية والعسكرية، على كامل أراضيها وحدودها الدولية.

للخروج من هذا المأزق، وما تفرّع عنه من أزمات إقتصادية ومالية واجتماعية، وما كان من أسباب الإنزلاق إليه والوقوع فيه من اعتداءات واحتلالات إسرائيلية متكرّرة وتدخّلات خارجية وحروب دفع ثمنها وما زال الشعب اللبناني دماً واقتصاداً وتنمية ومصيراً، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام تحدّي الإتّفاق الحتمي على حلول ومخارج دستورية وميثاقية، واقعية وعملية ومتدرّجة زمنيّاً وفق أولويات تحدّدها الضرورات والإمكانات فيسارعوا إلى معالجة ما تجرّه عليهم الوقائع الراهنة من كوارث وآلام في ضوء ثوابتهم الجامعة والمكرّسة في الدستور والميثاق.

وحده الإحتكام لدستور 1990 ولوثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الطائف 1989) يوفّر لهم المخارج الممكنة من هذا المأزق حماية لهويّتهم ودولتهم وكيانهم وتعدّديتهم ورسالتهم.

يتعرّض لبنان لتهديدات خارجية نتيجة المشاريع المتصادمة في الإقليم (الأميركي، الإسرائيلي، الإيراني) والمخطّطات التفتيتية المعدّة لدوله خصوصاً سوريا والعراق ولبنان، ونتيجة الحروب الجارية فيه، ومن أفظعها حرب الإبادة على غزّة، والحرب التدميرية على جنوب لبنان..

إزاء هذه الوقائع نشأ خلاف بين اللبنانيين فانشطروا وتشظّوا وتوزّعوا على تلك المشاريع المتصادمة.

الجميع باتوا أسرى هذا الواقع الإنقسامي:

فالموقف من إسرائيل وكيفية التصدّي لاعتداءاتها وتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة يعكس جوهر الخلاف بين اللبنانيين بين مؤيّد للمقاومة بالسلاح وظهيرها إيران وأعوانها في سوريا والعراق واليمن، وداع لاعتماد الديبلوماسية وتنفيذ القرارات الدولية وبخاصة القرار 1701، وبين مشكّك في قدرة الجيش على التصدّي للعدوان، ومؤمن بالجيش حصراً للحفاظ على السيادة الوطنية وأمن الحدود. ومن اللبنانيين من يرى أن الصراع مع إسرائيل هو صراع وجودي إيديولوجي كونها محتلّة لأراض لبنانية لها فيها  أطماع توسّعية تاريخية، ومنهم من يرى أنّه ما بين لبنان وإسرائيل نزاع حدود يمكن أن يسوّى بانسحابها من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبالعودة إلى اتفاق الهدنة لعام 1949 واتفاقيّة بوليه- نيوكومب (تحديد حدود لبنان مع فلسطين بين بريطانيا وفرنسا)  

أمّا الموقف من سوريا فيعكس وجهاً آخر من وجوه الخلاف بين اللبنانيين وهو لا يقلّ تعقيداً عن الموقف من إسرائيل. ثمّة من يدعو إلى التزام المعاهدات والإتفاقات المعقودة بين الدولتين في مرحلة ما بعد الطائف (1990-2005 ) وثمّة فريق آخر يرى أنّه لا شرعية لهذه المعاهدات والإتفاقات لأنها عقدت في زمن الوصاية (أو زمن الإحتلال لدى البعض) هذا الخلاف بدا يتفاقم بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان.. ثمّ اشتدّ بعد ما قامت "الثورة" في وجه النظام فمن اللبنانيين من ناصروا النظام ومنهم من ناصر المعارضة.. إلى أن دخلت داعش الأراضي السورية ومنها الأراضي اللبنانية فانخرطت المقاومة الإسلامية في الحرب إلى جانب الجيش السوري ما دفع بفريق آخر من اللبنانيين إلى معارضة هذا التدخّل.. بينما هم سمحوا لأنفسهم التدخّل إلى جانب المعارضة!

الحروب المتعدّدة الأطراف في سوريا وعليها (2011)  أدّى إلى حركة نزوح واسعة  فاقمها قانون قيصر ( 2019) وهي لم تتوقّف حتى بلغ عدد السوريين النازحين إلى لبنان ما يربو على مليوني نسمة... حركة النزوح باتت تشكّل في اعتراف جميع الفرقاء اللبنانيين خطراً وجودياً على الهوية اللبنانية ومصير الشعب اللبناني..

للخروج من  هذا المأزق الوجودي الذي أوقع اللبنانيون أنفسهم فيه نتيجة خلافاتهم العميقة والمتناقضة  بشأن الموقف من إسرائيل وسوريا والنظرة إلى كلتيهما  ليس أمامهم سوى الإحتكام إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني عبر حوار مفتوح حول المواد والبنود ذات الصلة. وهكذا نكون قد ربطنا الحلول بخيارات اللبنانيين المحدّدة في الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الطائف)

أوّلاً: لبنان وإسرائيل

في الدستور

حدود لبنان منصوص عنها في الدستور (المادة 1) ومعترف بها دولياً، لذلك فهي لا تخضع لأيّ تفاوض أو تسويات مع إسرائيل. والخط الأزرق الذي وضعته قوات الأمم المتّحدة في العام  2000 لتأكيد إنسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان والذي تحفّظت عليه حكومة الرئيس سليم الحصّ (أقلّه على ثلاث عشرة نقطة) لا قوّة قانونية له لتعديل حدود لبنان أو الإنتقاص منها فمن غير الجائز "التخلّي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه" (المادة 2) وضمانة عدم جواز  التخلّي أو التنازل هي حصراً من مسؤوليات رئيس الجمهورية الذي يحافظ على سلامة الأراضي اللبنانية (المادة 49) والذي وحده يحلف اليمين على أن يحفظ سلامتها (المادة 50)

الموقف من إسرائيل يحدّده الدستور اللبناني في مقدّمته (الفقرة ب) بقسميها: "لبنان عربيّ الهويّة والإنتماء، وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسّس وعامل في منظّمة الأمم المتّحدة وملتزم مواثيقها... وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء."

هذه (الفقرة ب) تملي على الدولة اللبنانية ما تقتضيه هويّة لبنان وانتماؤه من جهة وعضويته في جامعة الدول العربية من جهة ثانية..

وهي تملي على الدولة اللبنانية ما تقتضيه عضويّة لبنان في منظّمة الأمم المتّحدة ما يعني عملياً إلتزامها القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية عموماً والقرارات المتعلّقة خصوصاً بتحرير الأرض اللبنانية بدءاً بالقرار 425 الذي نفّذ جزء منه بفضل المقاومة واستشهاديّيها.

وهذه العضوية، بالإستناد إلى المواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية، تمنح الشعب اللبناني الحق في تحرير أرضه المحتلة وحقّ الدفاع عن نفسه في مواجهة أي عدوان خارجي.

 

في وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)

في البند الذي هو بعنوان "بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية" يعنينا منه في هذا السياق الفقرة رقم 1 التي تنصّ على "الإعلان عن حلّ جميع الميليشيات اللبنانية... وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية." هذا النصّ أثار جدلاً واسعاً بين اللبنانيين وانقساماً حادّاً فيما بينهم بشأن سلاح المقاومة الإسلامية فاعتبره البعض سلاحاً ميليشيوياً يجب أن يسلّم للدولة ثم جاء القرار 1559 ليعزّز هذا الرأي، بينما إعتبره البعض سلاحاً مقاوماً وتحريرياً تجب المحافظة عليه (ولو ضمن إستراتيجية دفاعية مطلوبة)

وتعنينا من هذا البند كذلك الفقرة 3 (ج) التي تنصّ على "توحيد وإعداد القوّات المسلّحة وتدريبها لتكون قادرة على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوان الإسرائيلي." ما يعني وجوب توحيد القوات المسلّحة وإعدادها وتدريبها وبناء قدراتها كي تتحمّل بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها. ومن منطق سيادي بحت يبقى الجيش اللبناني، وفي أيّ ظرف كان، هو المسؤول الأوّل والأخير عن حماية حدود الدولة.. ومن منطق إجرائي واقعي لا يجوز التفريط بأيّ قوّة شعبية مقاومة للإحتلال بل الإحتفاظ بها قوّة دفاعية مساندة للجيش تعمل بموجب القوانين اللبنانية وتخضع لقرارات الحكومة اللبنانية خصوصاً في ما يتعلّق بقرار السلم والحرب الذي يفرض إتّخاذه "موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها."(المادة 65 من الدستور) من هذا المنطلق الواقعي والدستوري كانت الحكومات اللبنانية المتعاقبة تكرّس في صلب بياناتها الوزارية  ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.

البند الذي هو بعنوان "تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي" تعنينا منه فقرتان: الفقرة (ب) والفقرة (ج)

تنصّ الأولى على "التمسّك باتّفاقية الهدنة الموقّعة في 23 آذار 1949 " وهذه ثابتة من ثوابت الموقف اللبناني من إسرائيل وقاعدة أساسية لإزالة الإحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة..

الفقرة الثانية تنصّ على أربعة تدابير متكامة:

"إتّخاذ كافة الإجراءات اللّازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الإحتلال الإسرائيلي...

"وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها.. 

"ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً..

" والعمل على تدعيم وجود قوّات الطوارئ الدوليّة في الجنوب اللبناني..."

وهي تدابير كفيلة بالتحرير الكامل.

هذه هي أطروحة التكامل بين الجيش اللبناني وقوّات الطوارئ الدولية (القرار 1701) والمقاومة الشعبية المسلّحة (التي هي واحدة من كافة الإجراءات اللازمة للتحرير، كما فهمها قسم من اللبنانيين، بينما آخرون منهم فهموا أنّ الديبلوماسية هي واحدة من تلك الإجراءات، فما المانع من العمل لترجمة الفهمين معاً؟!) 

ثانياً: لبنان وسوريا

في الدستور:

" لبنان عربيّ الهويّة ولإنتماء وهو عضو مؤسّس  وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها.. " (مقدّمة الدستور، فقرة ب) بين لبنان وسوريا وحدة هويّة وانتماء، والتزام مواثيق جامعة الدول العربية. وهذا ما يحسم مسألة عدم إعتراف سوريا بلبنان كما يعتقد بعض اللبنانيين، وبناء عليه يتّخذون مواقفهم منها،  فضلاً عمّا للتمثيل الديبلوماسي من قوّة إعتراف بين الدول في ضوء أحكام القانون الدولي العام.

حدود لبنان المعترف بها دولياً منصوص عنها في الدستور (المادة 1) بين لبنان وسوريا حدود دولية، حدود بين دولتين وهذا ما يحسم نقاط الخلاف على لبنانيّة مزارع شبعا من جهة وعلى ترسيم حدود لبنان الشرقية من جهة أخرى.

 

في وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)

في البند الذي هو بعنوان: "العلاقات اللبنانية السورية" يعنينا منه ما يلي:

"تقوم بين لبنان وسوريا علاقات مميّزة.."

هنا يطرح السؤال: هي مميّزة عن أيّ علاقات تقوم أو هي قائمة بين لبنان ودولة أخرى؟

ياتي الجواب في مستهلّ البند نفسه: "إنّ لبنان، الذي هو عربيّ الإنتماء والهويّة، تربطه علاقات أخويّة صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميّزة.."

من هذا السياق يفهم أنّها علاقات مميّزة عن علاقات لبنان بأيّ دولة عربية أخرى بما يتجاوز عملياً العلاقات الأخويّة الصادقة.

بماذا تتميّز وما سرّ قوّتها؟

إنّها علاقات شعب له جذور قربى وتاريخ فضلاً عن مصالح أخوية مشتركة..

على هذا المفهوم "يرتكز التنسيق والتعاون بين البلدين.."

وهذا المفهوم "سوف تجسّده إتفاقات بينهما.." 

من مستوى المشاعر الأخوية الصادقة إلى مستوى الإتفاقات الثنائية "في شتّى المجالات.." إكتمل مفهوم هذه العلاقات المميّزة ومضمونها.

ويبقى الأهم في مجال المضامين "تثبيت قواعد الأمن" بين الدولتين لأنّه "يوفّر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميّزة.."

هنا صحّت مقولة "أمن لبنان من أمن سوريا وأمن سوريا من أمن لبنان" المعبّر عنها بالآتي: " يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان.."

هذا التكافؤ في المسؤولية الأمنية المتبادلة بين لبنان وسوريا هو اعتراف متبادل بكلّ منهما. وما يضاعف من قوّة هذا الإعتراف ما يلي:

" وإنّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله (عنها أوّلاً) ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأيّ عمل يهدّد أمنه  واستقلاله وسيادته"، (إقرار صريح بسيادة لبنان)

هذا النصّ يقدّم إيضاحات وافية لإزالة الشكوك الراسخة في أذهان البعض حول نظرة سوريا إلى لبنان..

هذه النظرة إكتسبت بعدها العملي في الإتفاقات التي عقدت بين الدولتين وإذا كان البعض يجد فيها إجحافاً بحقوق لبنان فبإمكانه طلب مراجعتها من خلال المؤسسات الدستورية..

هذا ووثيقة الوفاق الوطني هي وثيقة لبنانية وعربية ودولية، وقّعها نواب لبنانيون، وجهد في سبيل  إنجازها وضمان تنفيذها ثلاثة رؤساء دول عربية (اللجنة الثلاثية العربية العليا) باسم جامعة الدول العربية، وبذل جهداً كبيراً في سبيل الوصول إليها ممثّل أمين عام الأمم المتّحدة، وهي مسجّلة في هذه المنظّمة، ومجلس الأمن أصدر بياناً بشأنها، لذلك لا يسع أيّ طرف التنصّل منها منفرداً أو التنكّر لها..

وهي ما زالت صالحة في حال العودة إليها وإلى الدستور، بتجرّد وعلم وموضوعية، لإيجاد الحلول للخلافات الأساسية بين اللبنانيين لجهة الموقف من إسرائيل، المقاومة وسوريا

موضوعات ذات صلة