
قراءة في بدايات المقاومة الوطنية في لبنان

قراءة في بدايات المقاومة الوطنية في لبنان
معن بشور
نص مقالة كتبها الأستاذ معن بشور في أوائل عام 1985، كتقديم لكتاب يوميات المقاومة الوطنية في لبنان، الذي أعدّه الأخ الإعلامي حسين عبد الله (مدير تحرير مجلة المنابر سابقاً)، ونشره في نيسان/أبريل عام 1985 ونعيد نشره اليوم تحية لبواسل المقاومة الاسلامية وشهدائها الابطال وفي المقدمة سماحة القائد الكبير السيد حسن نصر الله، رحمه الله، وقد كان بعضهم شريكا في الاجتماعات تلك الايام)
كان ذلك في يوم
قاس رهيب من أيام حصار بيروت في صيف 1982..
التقينا مجموعة من "المحاصرين" ممن ينتمون الى حركات
متعددة، وتيارات متباينة، نتدارس الوضع، ونقلب الأمور على أكثر من جانب، ونتطلع
حولنا فنحس بلسعة حصار العجز والتواطؤ أكثر بكثير مما نحس بقسوة الحصار الصهيوني
من البر والبحر والجو..
وطبعاً كان
السؤال: ما العمل ؟!.. وماذا ننتظر ؟!
كان الزالزل
كبيراً.. واي عمل نقترحه يبدو صغيراً، وضيئلاً، وعديم الشأن في مواجهة الجحافل
والخيانة والمؤامرة الواسعة النطاق..
وكان الصمت من
حولنا رهيباً.. وكل انتظار لنجدة من هنا، أو مساعدة من هناك عديم الفائدة، وهدر
لوقت ثمين..
لحسن الحظ لم
يكن بين افراد هذه المجموعة من يفكر في الاستسلام.. لأن كل فرد من أفراد هذه
المجموعة كان يرى فيما يجري على بوابات بيروت، إشارة خطيرة وهامة.. إشارة تقول:
الصمود أمام جيش "إسرائيل" ممكن.. العمليات ضد قوات الاحتلال ليست
مستحيلة.. الجيش الذي يواجهنا ليس كما يقولون جيش لا يقهر.. لقد رأينا جنوده يهربون، ورأينا طائراته
تسقط، ورأينا دباباته تقع أسيرة بين مقاتلينا..
قال أحدنا :
لماذا لا نفكر بعمليات خلف خطوط العدو ؟ّ! لماذا نترك ظهره آمناً.. لماذا لا نرهق
قواته من كل حدب وصوب.. لماذا لا نحاصره بالخوف والرعب كما تحاصر قواته عاصمتنا
الجميلة بالموت والدم والدمار..
وقال آخر: لماذا
نسميها عمليات خلف خطوط العدو.. لماذا لا تكون بداية لمقاومة شعبية مسلحة تعم كل
الأراضي المحتلة وتحولها الى أتون يحرق بنار لهيبه جنود الاحتلال .
وأضاف ثالث: إن
كل شيء مهيأ لكي نباشر عملنا ضد قوات الاحتلال .. فشعبنا مقدام متمسك بالحرية..
ومقاتلونا يعيشون تدريباً بالنيران منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.. وأرضنا دافئة
كريمة مهيأة لاخفاء الرجال والسلاح والعتاد..
واستطرد رابع
قائلاً: فلنبدأ بارسال السلاح والمتفجرات والذخائر منذ الآن.. فشرارة واحدة تلهب
السهل بأكمله .. وعملية واحدة تجعل أهلنا في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا ينقبون
الأرض من جديد بحثاً عن أطنان الأسلحة المطمورة فيها..
وقال خامس:
علينا أن ندرك أن الاحتلال قد يطول.. وان لا نركن للوعود المحلية أو الدولية..
فإسرائيل لا تفهم إلا لغة واحدة هي لغة القوة.. ولا تتراجع إلا أمام ضغط واحد هو
ضغط الخسائر البشرية ..
جرى اتفاق على
ان تبدأ العمليات في جبل عامل وصيدا وسائر المناطق المحتلة.. وبدأ نقل ما توفر
وتيسر من الأسلحة والذخائر والمتفجرات..
أروي هذه القصة،
لا لكي أقول ان هذه المجموعة دون غيرها هي التي فجرت المقاومة الوطنية الباسلة..
بل لكي أؤكد ان ما دار من حوار بين أفراد هذه المجموعة هو نموذج لما كان يدور بين
عشرات المجموعات المماثلة في معظم المناطق، لا سيّما المحتلة منها.. بل هو الجو
الحقيقي الذي ولدت فيه المقاومة الباسلة لشعبينا في الأرض المحتلة، وكان كل
الوطنيين والشرفاء روافد لها يضعون فيها طاقاتهم وجهودهم، بل كانوا بشكل خاص
يحاولون أن يسقطوا كل رهان على الدور الأميركي، والتنازل الرسمي اللبناني أمام
"إسرائيل"، ليشيروا الى أن الرهان الرئيسي والاكبر يجب ان يكون على
المقاومة الوطنية الباسلة في الجنوب..
في هذا الجو
ولدت مقاومة جيش الاحتلال داخل العاصمة بيروت حيث تصدى أبناء بيروت لدبابات الغزو
وقواته بأجسادهم الحيّة وسقط منهم الشهيد تلو الشهيد كمحمد الصيداني وعصام اليسير
وغيرهم ممن اجبروا المحتل على الجلاء عن العاصمة بعد أيام من احتلاله لها، كما كان
الشهيد خالد علوان، وشهداء الأحزاب الوطنية والإسلامية.
تلك كانت
الحقيقة الأولى والأهم في مسيرة المقاومة الوطنية اللبنانية، فهي لم تكن وليدة فئة
دون غيرها، أو تنظيم بحد ذاته، أو تحالف دون أخر، بل كانت ثمرة الحالة
الشعبية والوطنية العامة التي حاولت
غالبية الحركات والتنظيمات الوطنية والاسلامية التعبير عنها ومواكبتها..
أما الحقيقة
الثانية فهي أن جذور المقاومة الوطنية اللبنانية للاستعمار والاغتصاب الصهيوني هي
جذور عميقة تمتد الى عمر الاغتصاب نفسها..
فجبل عامل،
الممتد جغرافياً من جنوب لبنان الى شمال فلسطين، كان حصناً حصيناً للثورات العربية
المتعاقبة في فلسطين وسوريا وضد الاستعمار الفرنسي والبريطاني والهجرة الصهيونية،
فقد شارك العديد من أبناء الجنوب في الثورة السورية الكبرى عام 1925، كما كان
الأمر مع أدهم خنجر وصادق حمزة وغيرهما كما شاركوا عام 1936 في فلسطين ولبى العديد
من المتطوعين اللبنانيين نداء الواجب في حرب فلسطين عام 1948، فكان أحدهم فوزي
القاوقجي أبن طرابلس، قائداً لجيش الإنقاذ، وكان الآخر النقيب في الجيش اللبناني
محمد زغيب ابن يونين – بعلبك، بطل معركة المالكية وشهيدها، وكان الشهيد معروف سعد
زعيم صيدا بعد ذلك من رجالات المقاومة العربية في فلسطين...
واذا كانت
الروابط القومية والإسلامية هي التي شدت العديد من الشباب العربي في لبنان الى
الجهاد في فلسطين فإن المطامع الصهيونية في مياه لبنان وخيراته وأراضيه كانت
حافزاً اضافياً لا سيما وأن "إسرائيل" قد اغتصبت فيما اغتصبته سبع قرى لبنانية، (صلحا، هونين، الخالصة، ابل
القمح، الحولة، المنارة، المالكية) كما انها افتتحت مجازرها في لبنان في وقت مبكر
جداً حين ارتكبت مجزرة حولا الشهيرة عام 1948 التي أودت بحياة العشرات من
الجنوبيين اللبنانيين...
وبقي الصراع
العربي – الصهيوني محوراً أساسياً من محاور النضال الوطني والقومي في لبنان، بل
المحور الأرز في هذا النضال، وكان أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان جزءاً
طبيعياً ومهماً في حركة النضال الشعبي في هذا البلد، ومن أحزابه وحركاته الوطنية
والقومية، وكان التعبير الأبرز عن هذا الترابط هو المكانة الكبرى التي احتلها
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسائر الحركات الوحدوية كالبعث وحركة القوميين
العرب في نفوس اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء..
فالحماس المنقطع
النظير لثورة 23 يوليو المصرية بقيادة عبد الناصر، لم يكن مرده الى انها اسقطت
الملكية ، وضربت الاقطاع فقط، بقدر ما كان
بسبب الشعور الدفين عند المواطن العربي، لا سيما في لبنان، ان عبد الناصر هو صلاح
الدين الجديد، ااي هو محرر القدس، وقاهر العدو الصهيوني.. وهو الشعور الذي تعزز مع
قيام الوحدة بين مصر الناصرية وسوريا البعث، فأحس اللبنانيون بواجبهم القومي
تجاهها فانتفضوا في ثورة 1958 ضد حكم
شمعون المرتبط بالغرب والاحلاف والمشاريع والمتحالف مع أعداء عبد الناصر
والجمهورية العربية المتحدة...
وحين وقع
الانفصال في أيلول 1961، كان الغضب في
لبنان هو الأكثر عنفاً وصخباً منه في كل البلدان العربية الأخرى.
فعمت المظاهرات
أرجاء البلد العربي الصغير من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال.. وانخرط المئات، وربما الآلاف من الشباب القومي
العربي في لبنان في حركات ومنظمات ومهمات مناهضة لحكم الانفصال ولسياسته ورموزه
واركانه..
ولم يكن صعباً
على احد ان يدرك ان وراء كل هذا الحماس للوحدة ولعبد الناصر، وراء كل هذا الغضب
على الانفصال، شعور عميق لدى كل العرب، وفي طليعتهم اللبنانيون والفلسطينيون بان
المستفيد الأول من الانفصال كان إسرائيل، وأن المتضرر الأول من قيام دولة فكي الكماشة أو الطوق – كما كانوا
يسمونها آنذاك – انما هو الكيان الصهيوني..
وحين انطلق
العمل الفدائي الفلسطيني في مطلع عام 1965، كانت الحركة الشعبية في لبنان هي
الحاضنة الأولى له، فبلاغاته الأولى صدت ونشرت ، وتم توزيعها في بيروت، ومظاهرات
الاستنكار الأولى للاعتداء على الفدائيين جرت في شوارع بيروت، وحادثة مقتل الفدائي
الفلسطيني جلال كعوش – ابن مخيم عين الحلوة – على يد أجهزة المخابرات في لبنان في
كانون الثاني 1966 أحدثت شرخاً أساسياً في بنيان حكم "المكتب الثاني"
الذي كان يقوم على قاعدة مسايرة العروبة في الخارج مقابل ضربها في الداخل –
وبهذا المعنى
فالمقاومة الوطنية في لبنان، تعود جذورها في الحقيقة الى ذلك الترابط العضوي،
الجغرافي والتاريخي، السياسي والاقتصادي، الفكري والنضالي، بين لبنان وفلسطين، بين
الرفض التاريخي للاغتصاب الصهيوني ولمطامعه التوسعية وبين إرادة المقاومة المستمرة
في هذه الامة
...
اما الحقيقة
الثالثة حول المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب فهي انه بمقدار ما كانت الحركة
الشعبية في لبنان جزءاً من المقاومة الشعبية العربية والعارمة للوجود الصهيوني منذ
بدايته، فانها بعد نكسة 1967 بدأت تتخذ منحى أكثر خصوصية ، ومساراً اكثر تحديداً..
ففي حرب حزيران
1967، هب المئات من شباب لبنان في العاصمة وسائر المناطق للتطوع من اجل التوجه الى
الجبهة، وقد ذهب بالفعل عدد كبير منهم الى مشق وعمان، لكن تلك "الحرب
الخاطفة" والهزيمة القاسية التي رافقتها منعتا هؤلاء الشباب من المشاركة
بالقتال، فاكتفى دورنا آنذاك بالتظاهرات التي أحرقت السفارتين الأميركية
والبريطانية في بيروت، ثم بالتظاهرات
الضخمة التي انطلقت اثر اعلان الرئيس عبد الناصر الاستقالة فطالبه عشرات
الالاف من اللبنانيين ، مع كل العرب، بالعودة عنها ومواصلة المعركة.. وكانت تلك
التظاهرات ايذاناً بولادة حالة جديدة في
لبنان، هي حالة المقاومة الاصيلة للعدوان ونتائجه، وللاحتلال وأثاره.. لا سيما وان
موشي ديان وزير حرب العدو قد استخف بلبنان واللبنانيين حين قال ساخراً: أما احتلال
لبنان فبالنسبة الينا ليس اكثر من نزهى تقوم بها كتيبة من المجندات..
فبدأت (اللجان
الشعبية لمكافحة البضائع الأميركية) بالعمل، وأخذت (لجان مساندة العمل الفدائي)
بالتشكل هنا وهناك، واخذ الشباب يتوجه الى معسكرات تدريب الفدائيين في سوريا ثم في
الأردن، وكان الشهيد العربي الأول في صفوف المقاومة الفلسطينية هو لبناني من بيروت
الشهيد خليل عز الدين الجمل، والذي تحول تشييعه في نيسان 1968 الى تظاهرة وطنية
ضخمة شارك فيها اللبنانيون من مختلف المناطق والطوائف والفئات..
ومع أواخر
الستينات عبرت المقاومة الشعبية اللبنانية للوجود الصهيوني عن نفسها من خلال
احتضان العمل الفدائي الفلسطيني وحمايته والدفاع عنه بوجه محاولات السلطة لضربه
آنذاك، فكانت تظاهرة 23 نيسان 1969 في بيروت التي سقط فيها عدد من الشهداء ،
واستقالت على اثرها الحكومة، بداية لسلسلة
من التفاعلات لم تنته إلا بإقرار اتفاق القاهرة في تشرين الثاني ممن العام
نفسه برعاية الرئيس عبد الناصر، وهو الاتفاق الذي أقر بحرية العمل الفدائي وبحرية
الفلسطينيين في رعاية شؤون مخيماتهم..
إلا أن النقطة
الحاسمة في تاريخ المقاومة الوطنية اللبنانية تبقى في 28 كانون الأول 1968، حيث
قام العدو الصهيوني بعملية انزال في مطار بيروت دمر خلالها بعض الطائرات المدنية
اللبنانية، وخرجت قواته من المطار دون ان
تطلق عليها طلقة واحدو.. وكانت حجته في عمليته تل هي ان مطار بيروت يستخدم من قبل
الفدائيين الفلسطينيين للانطلاق في عملياتهم الخارجية ضد طائراته ومؤسساته في
الخارج..
أحدثت تلك
العملية هزة ضخمة في الوجدان الوطني اللبناني، الذي احس انه بات يواجه التحدي
الصهيوني وجهاً لوجه، كما انكشف بوضوح دور النظام والسلطة العاجزين أو المتواطئين
بنظر الكثيرين..
وللمرة الأول في
تاريخ لبنان يحصل اضراب طلابي يستمر عدة أسابيع، ويشارك فيه الطلبة اللبنانيون في
كل الجامعات اللبنانية بما فيها جامعة القديس يوسف في بيروت الشرقية.. كما اخذت
حمّى الاقبال اللبناني على التدريب والتسليح تتخذ طابعاً واسعاً.. لاسيما في
الجنوب..
فلقد بدأت
الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق الحدودية ، لا سيما العرقوب تزداد عنفاً
واتساعاً يوماً بعد يوم بحجة وجود قواعد فدائية في تلك المناطق.. ومع تزايد هذه
الاعتداءات بدأ العديد من الجنوبيين واللبنانيين يتنادون لحمل السلاح دفاعاً عن
قراهم وبيوتهم وأرضهم...
في أواخر آب
1969 سقط أول شهيد لبناني يدافع عن منزله في مزرعة حلتا – كفرشوبا في العرقوب هو
الشهيد حسين علي قاسم صالح الذي رأى دورية إسرائيلية تتوغل في أرضه، فأخذ يطلق
عليها النار من بندقيته من سطح منزله ويرمي القنابل الموجودة بحوزته، واستشهد وهو
يقاتل..
وفي آب 1969،
خاض المقاتلون اللبنانيون والفلسطينيون معركة الدفاع عن بلدة شبعا بقيادة المناضل
الشهيد امين سعد (الأخضر العربي) الذي استشهد في المعركة..
وفي 22 أيار
1970 قام الجيش الإسرائيلي بأول عملية عسكرية كبيرة له في منطقة العرقوب، فتصدى له
المقاومون من لبنانيين وفلسطينيين وعرب، وسقط ثلاثة شهداء لبنانيين من طرابلس هم أبو ميكل، أبو النصر، أبو النسور،
وشهيد عراقي هو صقر البعث.
وتولت
الاعتداءات، وتصاعدت المقاومة بوجه المطامع الصهيونية العدوانية، وبدأ "الخط
الجنوبي" يحفر لنفسه مجرى عميقاً في الحياة الوطنية اللبنانية حيث اخذت قوى
سياسية متزايدة تلتزم خط الدفاع من الجنوب، وتصفه بحوار لاستراتيجيتها، وتصيغ
البرامج المتكاملة لدعم صموده وتحصين قراه..
ففي أواخر عام
1969، انعقد في النادي الثقافي العربي في بيروت لقاء وطني ضم عدداً من الفعاليات
والأحزاب والقوى والشخصيات وذلك لدعم صمود الجنوب، وانبثقت عن هذا اللقاء هيئة
شعبية اطلقت على نفسها اسم "المؤتمر الوطني لدعم الجنوب" الذي تولى
أمانة سره المحامي خليل بركات رئيس بلدية كفردونين الجنوبية، وضم بين أعضائه عدد
من ممثلي الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية البارزة وفي طليعتها الحزب التقدمي
الاشتراكي الذي تمثل بشخص نائب رئيسه الأستاذ طارق شهاب.
اخذ هذا المؤتمر
على عاتقه تحصين الجنوب عبر إقامة ملاجئ وتحصينات في القرى الحدودية، وذلك عبر
حملات تطوعية شعبية واسعة، كما تولى هذا المؤتمر تنفيذ برنامج دعم صمود الجنوبيين
بدءا بتوفير منح دراسية للطلاب الجنوبيين وصولاً الى تنفيذ بعض المشاريع الحيوية
... إلا ان اهم ما نجح (المؤتمر) في اطلاقه فهو انتفاضة مزارعي التبغ في مطلع عام
1973 حيث بدأ تحرك المزارعين عبر مؤتمر خاص بهم انعقد في النبطية وخرجت على أساسه
تظاهرة كبرى أطلقت عليها قوى السلطة الرصاص فسقط الشهيدان نعيم حايك وحسن درويش.
لم تنحصر آثار
تلك الانتفاضة الكبرى في الجنوب فحسب، وانما امتدت الى كل لبنان، حيث نجح (الخط
الجنوبي) في العمل الوطني اللبناني في كسر قرار السلطة منع التظاهر تضامناً مع
مزارعي التبغ، فتوجهت تظاهرة التحدي الى ساحة (23 نيسان) في بيروت حيث القى
الأستاذ بشارة مرهج كلمة التظاهرة وسط غابة من رجال الامن المدججين بالسلاح
وبأوامر منع التظاهر..
ومن جهة ثانية ،
واكبت تجربة (المؤتمر الوطني لدعم الجنوب) كتجربة شعبية، اجتماعية، تحسينية، تجربة
تشكيل قوى مسلحة من أبناء القرى الحدودية اطلق على بعضها (فرق الدفاع الذاتي) و
(الحرس الشعبي) وغيرها..
ولقد خاض اهالي
بعض القرى الحدودية ملاحم رائعة بوجه الغزوات الإسرائيلية المتعاقبة فكانت ملحمة
كفرشوبا في أواخر 1971، والطيبة في 1-1-1975 حيث استشهد أب وولداه هم علي وفلاح
وعبد الله شرف الدين في مواجهة بطولية، وموقعه كفركلا التي سقط فيها الشهيد القائد
عبد الأمير حلاوي في 26 تشرين الثاني 1975..
أما الحقيقة
الرابعة التي يجب التوقف أمامها لدى أي
حديث عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والمناطق المحتلة فهي تلك
العلاقة الوثيقة بين المشروع الإسرائيلي العام في لبنان، وبين الدور الإسرائيلي
الخاص في الجنوب.. فبقدر ما تظهر القراءة السريعة لتاريخ الحرب الاهلية في لبنان
التي انفجرت قبل عشر سنوات ، صلة هذه الحرب بمشروع التفتيت الإسرائيلي في لبنان
والمنطقة بأسرها، فانها تظهر كذلك ان البوابة الدائمة لهذا المشروع كانت من الجنوب
اللبناني حيث كانت "إسرائيل" تلجأ الى تفجير الأوضاع فيه عندما تشعر بأن
من الصعب عليها تفجير الأوضاع في الداخل اللبناني..
فالاعتداءات
الإسرائيلية على الجنوب منذ عام 1968 كانت الذريعة الرئيسية التي استخدمها فريق لبناني معروف بدوره الأساسي
في تفجير الحرب الاهلية لكي يطالب يضرب المقاومة الفلسطينية وحلفائها الوطنيين
ولكي يقيم معسكرات التدريب وينشئ الميليشيات المسلحة.
ولدى إقرار
(الحل العربي) للازمة اللبنانية في مؤتمري الرياض والقاهرة خريف عام 1976، وبعد
الهدوء الذي رافق انتشار (قوات الردع العربية)، في معظم الربوع اللبنانية ، وجدت
حكومة (تل ابيب) انه لا بد من تسخين الأجواء في الجنوب لعرقة أجواء السلام في
لبنان، فاستعانت بسعد حداد الذي احتل بمعونة إسرائيلية ثكنة مرجعيون وانطلق في
مشروعه التفجيري من مثلث القليعة – برج الملوك- دير ميماس شرقا، ومن مثلث عين ابل
– دبل- رميش غرباً.. وبدأت المعارك في الشريط الحدودي منذ خريف 1976 حتى اجتياح
آذار 1978... كانت خلالها تجري معارك حادة لاسقاط بلدات وقرى ومواقع سرعان ما يتم
تحريرها، كما كان الامر مع بلدة (الخيام) الجنوبية الكبيرة ومع قرى رب ثلاثين
والطيبة ومارون الراس وغيرها..
وحين اتضح للعقل
الإسرائيلي عجز ادواته عن تحقيق الأهداف المناطة بهم، كان الاجتياح الإسرائيلي
الواسع في آذار 1978 الذي ما لبثت ان اعلن بعده سعد الحداد دويلته الانفصالية
(دولة لبنان الحر) على امتداد الشريط الحدودي في اليوم ذاته الذي كانت فيه فصائل
مسلحة من (القوات) تنفذ عمليتها الشهيرة في بلدة أهدن الشمالية وتقتل النائب
والوزير السابق طوني فرنجية وزوجته وطفلته وعدداً من أنصاره مما أعاد البلاد مرة
خرى الى أجواء الحرب الاهلية التي عمت بالإضافة الى مناطق شمالية، العاصمة بيروت
ذاتها حيث جرت اشتباكات واسعة وقصف شديد في مناطق بيروت الشرقية بين الميليشيات
وقوات الردع العربية..
وبعد معركة زحلة
في نيسان 1980 ، والمبادرات العربية التي رافقها تجديد مسيرة الوفاق الوطني داخل
لبنان، رمت حكومة (الليكود ) بكل ثقلها لتشجيع فريق الميليشيات المتعاونة معها على
رفض الحل العربي والوفاق الوطني، واعدة إياهم بدعم استثنائي يصل الى حد حسم الأمور
لمصلحتهم على المستوى اللبناني العام..
وعلى الرغم من
ان للعملية العسكرية الإسرائيلية الكبرى في حزيران 1982 مجموعة من الأهداف
الاستراتيجية المتصلة بالخطة الإسرائيلية – الأميركية في لبنان والمنطقة، الا انه
بات من الأكيد والثابت ان التوغل الإسرائيلي باتجاه العاصمة، وموقع الرئاسة في
بعبدا، وبعض المناطق الشرقية كان يطمح الى تحقيق انقلاب كاسح في موازين القوى
الداخلية لمصلحة الفريق المتعامل مع إسرائيل وهو الامر الذي عبّر عن نفسه
بانتخابات رئاسة الجمهورية في آب 1982..
واليوم تتكرر
الخطة ذاتها في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي وراشيا، حيث بات واضحاً انه بعد
انتصار الخيار العربي مجدداً في لبنان، ودخول البلاد في مسيرة الهدوء والوفاق
الوطني، حاول المحتل الإسرائيلي ان يرد على الهدوء في الداخل اللبناني من خلال
تفجير الأوضاع في المناطق المحتلة لا سيما في منطقة صيدا والزهراني ناهيك عن
تحضيرات أخرى لمناطق جزين والبقاع الغربي في محاولة مكشوفة لاعادة البلاد الى نقطة
الصفر في الحرب الاهلية.. مستفيداً من التطورات المتسارعة في المناطق الشرقية
وبعدها في بيروت الغربية خلال شهري آذار ونيسان...
وبهذا المعنى
فالمقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي ليس مهمة تحريرية فحسب، بل لها مهمة
توحيدية لا تقل أهمية عن مهمتها التحريرية... ذلك ان اخراج قوات الاحتلال
الإسرائيلي يجب ان يبقى مرتبطاً بوضوح بإخراج نتائج هذا الاحتلال على كل
المستويات.. فالمشروع الإسرائيلي في لبنان، هو سياسي بالدرجة الأولى، وان كان
يستعين أحياناً بالقوى العسكرية.. فهو مشروع في جوهره تفكيك الروابط التوحيدية بين
اللبنانيين والعرب والمسلمين على حد سواء
من خلال اثارة وتأجيج كل النعرات العنصرية والطائفية والمذهبية وإقليمية بين أبناء الامة الواحدة..
وهكذا فالمقاومة
الوطنية للاحتلال هي كذلك مقاومة سياسية بقدر ما هي مقاومة عسكرية، هي مقاومة لكل
محاولات التفكيك والاثارة العنصرية والطائفية والمذهبية والإقليمية بقدر ما هي
عمليات عسكرية بطولية ضد قوات الاحتلال..
فكما قلنا عام
1967 في " صوت الجماهير" فلنهزم المؤامرة من الجنوب، والحرب تبدأ من
الجنوب والسلام يبدأ من الجنوب، نرى اليوم ان هذه الشعارات تصلح اليوم لتكون
اطاراً للبرنامج الوطني العام، ومحكاً لجدية ووطنية وقومية كل القوى والحركات
والفعاليات والأنظمة في لبنان والمنطقة بأسرها..
أما الحقيقة
الخامسة التي أبرزتها تجربة المقاومة الشعبية للاحتلال ، فهي ان المقاومة الباسلة
في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا عبرت عن عمق الترابط بين الانتماء والايمان، بين
الهوية الوطنية والقوى الروحية، بين الدفاع عن الأرض وبين المحافظة على التراث
الحضاري والديني..
فبالقدر الذي
كشفت فيه هذه المقاومة من جديد الدور الإيجابي والجهادي للرسالات الروحية، وخاصة
الإسلام، فان هذه المقاومة قد أظهرت أيضاً ان المقياس الحقيقي للايمان، والمحك
الجدي للالتزام الروحي بالرسالات السماوية ، انما يكون بتجسيد هذا الايمان بالدفاع
عن أرض الوطن وحرية الشعب وبالتصدي
للغاصبين والطغاة..
فلقد كانت
المساجد والنوادي الحسينية هي القواعد الرئيسية للمقاومة ، وكان العلماء المجاهدون
هم أبرز رموز هذه المقاومة وشهدائها كالشهيد السعيد العلامة المجاهد راغب حرب،
والعلامة الشهيد عبد اللطيف الأمين، والعلماء المعتقلين كالشيخ محرم العارفي،
والشيخ عباس حرب، والشيخ عبد الكريم شمس الدين وغيرهم..
كذلك كانت الروح
الجهادية المستمدة من التراث الإسلامي هي ملهمة العديد من الابطال الذين نفذوا
عمليات استشهادية كعصام عز الدين بطل عملية اقتحام الموقع الإسرائيلي في الاولي،
ونزيه القبرصلي، وبلال فحص، وأحمد قصير، وسناء محيدلي وكامل وهبة ولولا الياس عبود
وغيرهم من الابطال..
ان هذه الصلة
الوثيقة بين الإسلامي والوطني، بين الروحي والقومي، قد كشفتها بأروع اشكالها المقاومة الباسلة لشعبنا في المناطق المحتلة..
وكل محاولة لوضع
الوطني بوجه الإسلامي او العكس، هي في نتائجها الحقيقية ليست وطنية ولا إسلامية ،
فمقياس الوطنية والإسلامية في تحرير الأرض ومقاومة الغزاة ليس في الانتماء
الأيديولوجي والمنبت الفكري بقدر ما هو في الممارسة العملية والنضال الفعلي ضد
المحتل والغاصب، فالمسلم الحقيقي هو ذاك الذي يندفع بكل طاقاته وامكاناته لمواجهة
الغزاة والغاصبين ويمد يده لكل من يناضل
بصدق في هذا الاتجاه.. والوطني الحقيقي هو الذي يحاول استنفار كل القوى الكامنة في
شعبه وامته للدفاع عن الوطن والأرض والشعب وفي طليعتها بدون شك القوى الروحية
الضخمة الكامنة في جماهيرنا المؤمنة بربها والمعتزة بدينها وتراثها..
ولعل اسم (جبل
عامل) يلخص هذا الترابط الوثيق بين الأرض والعقيدة، بين العروبة والإسلام، بين
جنوب لبنان وشمال فلسطين، بين التراث والاصالة وبين الجهاد والمعاصرة.
فمثلما كان جبل
عامل عربياً نسبة الى عاملة بن يشجب بن سبأ ام القبائل العربية القادمة من اليمن،
كان أيضاً موئلاً للمسلمين الأوائل من المتمسكين بأصول الدين وروحه كأبي ذر
الغفاري (ر) وغيره من العشرات من كبار العلماء المجاهدين الذين توارثوا على هذا
الجبل الأبيّ وصولاً الى العلامتين الكبيرين المغفور لهما السيد محسن الأمين
والسيد عبد الحسين شرف الدين..
و (جبل عامل) هو
موئل العلماء والادباء والمفكرين الذين حافظوا بكل جدارة على التراث الإسلامي
والعربي بوجه كل الهجمات والغزوات مثلما كان أيضاً قلعة لكل الثورات التحررية
والوطنية التي شهدتها المنطقة سواء في فلسطين أو سوريا أو حتى في مصر..
و (جبل عامل)
ممتد جغرافيا من جنوب لبنان الى شمال فلسطين حيث يشكل العديد من قرى الجليل ومدنه
جزءاً أساسياً منه.
ومن هنا فمقاومة
(جبل عامل) وصولاً الى (جبل الشيخ) هي مقاومة وطنية وروحية معاً، عربية وإسلامية
في الوقت نفسه.. وكل محاولة لتحجيم هذه المقاومة سواء على مستوى التاريخ أو على
مستوى الجغرافيا هو في النهاية افتئات على جوهرها، وتزييف لمضامينها، وتجويف
لحقيقتها ، وللجم لابعادها الواسعة المتدفقة..
ان مقاومة (جبل
عامل) اذن هي مقاومة عريقة في الزمان، طموحة في المكان.. ومن هنا هي مقاومة عملاقة
بكل ما في الكلمة من معنى.. وبالتالي فهي لن تقبل التحجيم والتقزيم أياً كانت
الذرائع والمبررات ..
انني اذ اضع هذه
الحقائق التي كشفت عنها بوضوح مقاومتنا الباسلة في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا
في اطار التقديم لهذا التسجيل التوثيقي العام لعمليات المقاومة في الجنوب، فأنني
أتوجه بالتقدير العالي لجهد الزميل والاخ حسين العبد الله (ابن الخيام التي قاست
الامرين من الاحتلال وادواتها) وللأخ الذي كان وراء تسجيل هذه اليوميات صالح عثمان
صالح (ابن كفرشوبا التي كانت رائدة في المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي منذ
أواخر الستينات) الذي اشرف على نشر هذا الكتاب علماً ان الاثنين كانا بين شباب
الجنوب اللذين رافقا هذه العمليات
بأعصابهما ونفسيهما الحارتين مثلما رافقاها في بطون الصحف وأجهزة الاعلام.