الإثنين ٠٦ / أكتوبر / ٢٠٢٥
من نحن اتصل بنا سياسة الخصوصية

أخبار عاجلة

طوفان الأقصى ينتقل بشكلٍ مُتسارعٍ إلى الضفّة.. ويعدّ استقبالًا حارًّا لترامب وصفقة قرنه.. وضربات مُوجعة بل قاتلة لنتنياهو.. إليكُم التفاصيل

المسيحيون العرب وتثبيت الهويّة

المسيحيون العرب وتثبيت الهويّة

المسيحيون العرب وتثبيت الهويّة

د. ساسين عساف 

"معاً أمام  الله في سبيل الإنسان والمجتمع" عنوان الرسالة الراعوية الصادرة عن أعلى مرجع ديني كاثوليكي في الشرق والموجّهة إلى المؤمنين بمناسبة ميلاد سنة 1994 لبناء "حضارة المحبّة."

الكنيسة العربية الكاثوليكية (هوية عربية ضمن الكنيسة الجامعة) هي كنيسة مميّزة بعلاقتها بالمسلمين العرب في إطار التلاقي والتفاعل والتعاون الأخوي البنّاء.. فالعيش مع الآخر/المسلم عنصر أساسي في حياة المسيحيين العرب أكسبهم خبرة تاريخية خاصّة بشأن حوار الحياة مع المسلمين..

هدف الكنيسة العربية الكاثوليكية من هذه الرسالة الراعوية الثالثة هو تعزيز الحياة مع الآخر وفتحها على آفاق كانت تقتضيها تحدّيات تلك المرحلة ومستجدّاتها، فالعالم كان  يسير نحو التلاقي بفضل التقدّم العلمي والتكنولوجي.. وجوهر الدين له دور خاص في مجال تنمية العلاقات بين البشر في اتّجاه التلاقي.. إن للدين فاعليته التاريخية في تحديد طبيعة العلاقات بين البشر. وفي تلك المرحلة شهد العالم يقظة دينية تحمل وجهين، الوجه الإيجابي والوجه السلبي، الإيجابي فيها هو أنّها انطوت على إمكانات لتجديد الطاقات الروحية وانفتاح على الآخر، والسلبي فيها هو أنّها انطوت على مظاهر تعصّب وعدوانية إزاء الآخر.. 

هذا، وبيئة الكنيسة العربية كانت تمرّ في حالة مخاض حضاري عميق: إنّها، من جهة، تبحث عن ذاتها وعن صيغة لوجودها وعن موقع لها في العالم وعن دور لتثبيت دعائم الاستقرار والسلام.. وكانت تشهد، من جهة ثانية، تحوّلات إجتماعية وجغرافية/سياسية واقتصادية وثقافية عميقة.. المسيحيون العرب عايشوا إخوانهم هذا المخاض وهذه التحوّلات، لا بل انّهم كانوا في قلب المعاناة متخوّفين ومتسائلين وباحثين عن صيغة  للقيام بدورهم  الحضاري في بيئتهم العربية وتثبيت هويّتهم فيها..

في ضوء التجربة التاريخية المسيحيون العرب شاركوا في بناء وحدة الوطن العربي والتاريخ والمصير وشاركوا مع المسلمين في بناء الحضارة العربية، وذلك على المستوى الثقافي اللاّهوتي/الفقهي/اللغوي وعلى المستوى الإجتماعي لجهة الحياة معاً في مجتمع واحد وتقاسم العيش والملح، الخيور والموارد، في ظلّ قيم مشتركة وعادات وتقاليد واحدة.. فأسهموا في تكوين ذاكرة جماعية مشتركة تشكّل الضمان لديمومة دورهم بين إخوانهم المسلمين العرب..

هذا لا ينفي أنّ المسلمين والمسيحيين عاشوا في فترات صعبة من التصلّب والقسوة والتعدّي لأسباب سياسية وظروف نفسية واجتماعية واقتصادية ونزعات تعصّب ديني وأمزجة حكّام متقلّبين..

أمّا المتغيّرات التي عرفتها تسعينيات القرن الماضي وبخاصة تصاعد قوّة الإسلام السياسي وضعت المسلمين والمسيحيين أمام مجموعة تحدّيات ظهر منها ما نفهمه ممّا جاء في الرسالة وهو الآتي:

"إذا ما أراد المسلمون في الشرق العربي أن يطوّروا أيّ مشروع لنظام إجتماعي وسياسي فلا بدّ من أن يأخذوا بالحسبان الجماعة المسيحية بشكل يعطيها الثقة.."

ما يعني أمرين:

الأوّل هو أنّ المسلمين قد يعمدون إلى تطوير مشروع إجتماعي/سياسي.

الثاني هو أنّ البطاركة حريصون أن يبقى المسيحيون داخل هذا المشروع وهذا ما يعني بالدرجة الأولى تثبيت دورهم (الدور هو تظهير للهويّة) فيه ويعني بالدرجة الثانية أنّه لا مشاريع خاصة لهم وخصوصاً في المجال السياسي.

يؤكّد هذا الكلام أنّ الجماعة المسيحية، فضلاً عن حقّها في الحقوق الدينية، هي جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع لجهة حقّها في الحقوق المدنية على قاعدة اعتبارها كاملة العضوية في الجماعة الوطنية (ما يعني الإنتماء إلى هويّتها) بكلّ ما لها من حقوق وما عليها من واجبات..

بالمقابل، ثمّة تحدّيات طرحتها الرسالة على المسيحيين العرب:

- التخلّص من المواقف الاجتماعية والنفسية السلبية المتوارثة. فإيمانهم يحرّرهم منها ويساعدهم على التلاقي مع الآخر.

- الإلتزام الإيجابي في حياة المجتمع بجميع مجالاته الوطنية. ذلك أنّ ما يؤثّر على الحياة معاً ويعمّق جذورها ويوطّد أركانها هو المشاركة في الحياة العامة سياسياً  واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

- إزالة الأوهام والأحكام المسبقة. فالأوهام هي أساس الخوف من الآخر وهي تسبّب الخلل والتمزّق في نسيج الحياة الاجتماعية وتيسّر الإشاعات وتلهب الانفعالات. الحوار وسيلة تعارف، وهو كفيل بإزالتها.

وفي سبيل بناء المستقبل العربي الإسلامي/المسيحي معاً تحدّد الرسالة المنطلق بما يجمع بين المسيحيين والمسلمين:

- الإيمان بالله الواحد (هويّة دينية)

- الإنتماء إلى وطن واحد (هويّة وطنية)

- الإرتباط بمصير واحد (هويّة مستقبل)

- ردود فعل واحدة أمام التحدّيات المحلّية والعالمية (هويّة سياسية/ إجتماعية /ثقافيّة)

من مستلزمات هذا البناء حوار هذه الهويّات وتفاعلها لا تصادمها وذلك:

بجرأة روحية على مواجهة الحقيقة ومصارحة تتطلّب التمييز بين المبادئ السامية (النصّ) وبين الممارسة (الواقع) ومن شروط إتمامها النيّة الحسنة والمحبّة والصّدق.

بالتحرّر من الجهل والأفكار المسبقة، فهو يقرّب من الآخر بهدف التعرّف إليه والاعتراف به.

بقبول التعدّدية والتنوّع. التعدّدية في المعتقد الديني، في نهج الحياة. والتعدّدية لا تتناقض مع وحدة الهويّة وتآلف عناصرها المجتمعية. إن أيّ مشروع وطني لا يأخذ في الحسبان واقع التعدّدية أو يعجز عن التعامل معها تعاملاً إيجابيا يحكم على نفسه بالفشل..

بتطوير الخطاب الديني والإبتعاد به عمّا يثير العصبيات الدينية.. فالمفكّرون واللاّهوتيون المسيحيون مدعوون إلى بناء رؤية جديدة تنصف الإسلام من دون مجاملات أو نفور قد يصل إلى حدود التجنّي. والمؤسسات العلمية المسيحية مدعوّة إلى إدخال الإسلاميات في سياق برامجها الأكاديمية. والعلماء المسلمون بدورهم مدعوون كما المؤسسات العلمية الإسلامية إلي تفهّم الدين المسيحي عبر جعله مادّة حوار وتعليم.

وعليه،

يجب أن تدخل الهوية العربية الإسلامية/المسيحية في صميم المشروع التربوي ليصبح واقعاً ملموساً في البرامج المدرسية. مشروع الهويّة يجب أن يتحوّل إلى مشروع تربوي.. فالتربية هي طريقه إلى التطبيق العملي. التربية في المدرسة، في الجامع والكنيسة، في مؤسسات الإنتاج الفكري والإعلامي هي لتقويم سلوكيات المجتمع والأفراد في اتّجاه علمي/عقلاني/متسامح..

مشروع الهوية العربية (الإسلامية/المسيحية) هو في أساس بناء مجتمع عربي متفاعل وحضاري فالمجتمع العربي كما رأت إليه الرسالة كان في مأزق تاريخي. والخروج من المأزق  رأت أنّه يتمّ عبر العناوين الآتية:

المواطنة: إنها تعني تأصّل الهويّة، الفردية كما الجماعية، في الأرض وفي المجتمع، أي الإنتماء الشديد إليهما. وهي تفرض المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق  والواجبات، وعدم التمييز بينهم بسبب المعتقد الديني أو السياسي أو اللون والعرق والجنس، وتفرض المشاركة في المشروع الوطني.. (لا هويات منفصلة عن هذا المشروع)

المشاركة الحرّة والمسؤولة: الأنظمة السياسية والاجتماعية مطالبة بأن تكفل حقّ المشاركة في الحياة العامة لكلّ مواطن. والقوانين مطالبة بأن تكون عادلة لتنظّم العلاقات بين أبناء المجتمع وتعطي الجميع مجال التعبير الحرّ عن نفسه. الأنظمة والقوانين العادلة تضمن ديموقراطية المشاركة التي لا تنبني على قاعدة العدد الأكثر والعدد الأقلّ لأنّها تعني المحافظة على الأقلّ في الأكثر. فالحقوق والواجبات لا تكثر ولا تقلّ بكثرة العدد أو قلّته.

الدين والسياسة: ربط الدين بالسياسة إشكالية معقّدة ينتج عنها ضرر عميق على الدين والسياسة معا. تحويل الدين إلى إيديولوجيا سياسية يجعله أداة وصول إلى السلطة وأداة قمع وتسلّط. تحويل السياسة إلي إيديولوجيا دينية إستغلال للدين وتوظيف لتأمين المصالح الخاصّة.

الإيمان والقيم الدينية والروحية عناصر تكوينية في بنية الإنسان العربي (المسلم كما المسيحي) والمجتمع العربي. فإقصاء الدين عن الحياة العامّة أو حصره في مجال الشعائر والعبادات مسألة مستحيلة.

هذه الإشكالية المعقّدة، وعلى قاعدة الربط بين الهويّة الدينية والهويّة الوطنية، تدفع إلى السؤال الآتي:

كيف يمكن المساواة بين المسيحي والمسلم في البلد العربي الواحد؟

هذا السؤال يعبّر عن رغبة مسيحية تاريخية في الوطن العربي، ألا وهي: إعتبارهم (واعتبار أنفسهم أوّلاً) مواطنين بكلّ معنى الكلمة، لا أقلّية تطلب الحماية أو تنزع إلى الإنفصال. وذلك من خلال إطار قانوني يسمح للجميع بالمشاركة المتساوية في مجال الحياة الوطنية بما فيها الحياة السياسية. وعليه،

قوانين الدولة مطالبة بأن تضمن حقوق الأقلّية الدينية بالقوّة نفسها التي بها تضمن حقوق الأكثرية الدينية.

أمّا الخروج من إشكالية ربط الدين بالسياسة فتكون باعتبار الإنسان مقياس النّظم السياسية والاجتماعية. حقوق الإنسان هي سبيل الخروج من هذه الإشكالية. إحترام حقوق الإنسان يقدّم الحلول للنزاعات بين البشر. هذا، ودور الأديان يقوم بالدعوة الدائمة إلى حوار المودّة والرّحمة.

حوار المودّة والرحمة يخرج معطوبيّة الهويّة من نظرة الآخر إليها.

هويّة المسيحيين العربية عانت من مسوءات مسيحيين يتنكّرون لها ومن مسوءات مسلمين يخرجونها من "شرقها" إلى غرب ليست منه وهو ليس لها.. آن لها أن تخرج من هذه المعاناة ولها من "الإرشاد الرسولي" (البابا يوحنا بولس الثاني،  1997) خير مرشد ودليل.

موضوعات ذات صلة