
حداثة مقابل حداثة

حداثة مقابل حداثة
منير شفيق
الحداثة الأولى
يقصد بها الحداثة كما تجلت في الغرب. والحداثة الثانية التي تقابلها، هي ما تجلت
في ثورات وحركات التحرر من الاستعمار الغربي، وما يدور الآن من صراع دولي على
مستوى أمريكا والغرب (الحداثة الأولى)، وعلى مستوى الصين وروسيا، وعدد من الدول
الإقليمية، مثل إيران وتركيا والهند، وجنوبي أفريقيا والبرازيل وفنزويلا وكوبا،
وعدد من الدول (الحداثة الثانية جزئياً أو عموماً). لم تُبلور بعد تبلوراً كاملاً،
كما هو الحال في الحداثة الأولى. ولكنها ستكون بدورها حداثات من أنواع متعدّدة.
وما ينبغي للعالم أن يحكم بحداثة واحدة، أو تفرض عليه حداثة واحدة.
القضايا التي
تدور حولها الحداثة الأولى، كما تقدّم نفسها إلى العالم، واقعياً، وواقعاً، وكما
يقدّمها المنادون بها، والمدافعون عنها من مثقفين وسياسيين ومفكرين من الغرب، أو
من قِبَل نظراء لهم في الجنوب والشرق، من شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية،
وربما بحماسة أشدّ من حماسة أهل الغرب نفسه.
هذه القضايا
تمثل مجالها في السياسة، من خلال ما يقوم من نظام دولي، تجسّد في النظام
الرأٍسمالي على صورته الأمريكية-الأوروبية، وتجسّد في النظام الديمقراطي الانتخابي
التداولي على السلطة، في الغالب بين حزبين، أو بين تيارين من النمط الحزبي. وقد
توافقا على ما بينهما من خلاف، أو وفاق، لا سيما في ما يتعلق بالوحدة في
الاستراتيجية الخارجية، وفي الوحدة في النظام الداخلي، لنقل ما عبّر عنه القرنان
الماضيان 19 و20، وعقديّ إلى القرن 21.
إن هذا النظام
ببُعده الاقتصادي-السياسي الرأسمالي من جهة، وبُعده الاقتصادي الاجتماعي السياسي
الداخلي من جهة ثانية، قد امتلك قوّة
إقناع كبيرة، لا سيما من ناحية الحريّات السياسية، والتداول على السلطة. ولكنه غير
قابل للتعميم، لا سيما بما يوفره من ثراء ورفاه، ودولة رعاية، ورضى شعبي عام. لأن
هذا الذي يوفره ناجم عن سيطرة عالمية عسكرية وسياسية ونهبية للخارج، لا يمكن أن
تتمتع بمثلها، عدا دولة نفط صغيرة. ولكن هيهات لها أن تتمتع بالسيطرة العسكرية
والسياسية، والاقتصادية العالمية.
لهذا فإن هذين
البُعدين اللذين تقوم عليهما الحداثة الأولى الغربية، غير قابلين للتعميم أو
الاقتداء، للوصول إلى النتائج نفسها. لأن الاقتداء ثبت فشله في تجارب كثيرة،
حاولتها دول في أمريكا اللاتينية، أو في آسيا، وأفريقيا.
فالحداثة
الغربية منذ أن وجدت، وطوال أزمان وجودها، أخضعت لها أغلب دول العالم، وحاولت
بالضغط من قبلها، أو بتقليدها، أن تبني دولاً حدبثة على نمطها. وكذلك أنظمة “رأسمالية”، أو مدارس
وجامعات ومؤسسات اجتماعية، من النمط الحداثي الغربي (التابع بالضرورة) أي السير في
ركابه، بحداثة تابعة خاضعة للحداثة الأولى. وهو ما يقتضيه جوهر الحداثة الغربية.
أي السيطرة على العالم ونهبه، ومنعه من الاستقلال، لأن الاستقلال يعني الحفاظ على
مصالح الشعب العليا، أو المصالح العليا للدولة اللاغربية.
ثم تأتي السمة
الحداثية الأخرى في الحداثة الأولى (الغربية)، وهي المتعلقة بالأبعاد الثقافية
والحضارية والفلسفية (الموقف من الانسان وغاية وجوده ومآلاته)، والمتعلقة بما يمسّ
حريّة الفرد، وحريّة جسده، وما يمسّ العائلة والأخلاق الفردية، بالنسبة للعلاقة
بالأب والأم من عمر 17 أو 18 منه، حين يبدأ الاستقلال، والأهم في مرحلة الشيخوخة،
وما يصحبها من علاقات او التزامات، أو دون الالتزام.
إن الحداثة
الغربية في ما يتعلق بالقضايا التي تتعلق بالأخلاق العامة والفردية، وبالنظرة إلى
الحياة، والأيديولوجية، ولنلخصها بالأبعاد الثقافية والحضارية والعلاقات
الاجتماعية، مرت بمراحل وتطورات متعدّدة، ولم يكن لها حداثة واحدة مستدامة، ولكن
اتجاهها العام، كان كما هو الحال في ما وصلته، من أفكار وقِيَم تتعلق بالفرد
وحريّته. وصولاً إلى ما راح يسود الآن، بل ويُفرض أن يسود، من حيث تغيير الجنس،
وتشكّل العائلة. وهو ما راحت دول مثل روسيا والصين ترفضه بشدة، وتدخل الصراع ضده.
الأمر الذي يؤكد الصراع بين الحداثة الأولى والحداثة الثانية.
هذا دون التحدث
في الخلاف مع الحداثة الأولى في الأبعاد المختلفة المتعلقة بالثقافة والحضارة
والمعتقدات، والنظرة إلى الحياة، وإلى الغاية الأسمى لوجود الإنسان، ولما يجب أن
تقوم على أساسه العلاقات بين الدول والشعوب والأمم.
من هنا فإن
التقابل بين الحداثتين، أو من أجل فهم أعمق للحداثة الأولى التي تحاول أن تفرض
نفسها، باعتبارها الحداثة العالمية واجبة الاتباع. أي حداثة الغرب من حيث سيطرته
العسكرية والسياسية والاقتصادية، والنهبية على العالم، بما يتعارض بالضرورة مع
حياة الشعوب الأخرى، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً (لما يقوم
من ترابط في ما بين هذه الأبعاد) الأمر الذي جعل المواجهة بين حداثتين، وليس كما
يحاول البعض عندنا (وتحاول دول الغرب) أن تفرض وجود حداثة واحدة، ومقابلها الماضي
والقديم من ثقافات وحضارات.
وهذا الطرح يجب
أن يسقط منذ البداية، من حيث وجود حداثة واحدة، لأن ثمة أكثر من حداثة مقابلة.
لأن معارضة
الحداثة الأولى على كل المستويات: مواجهة السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية
والنهبية للحداثة الأولى (الغربية)، كما من حيث فرض الحداثة الثقافية
والأيديولوجية والفلسفية والحضارية على العالم، مقابل حداثة ثانية عالمية، نضرة،
شديدة النضارة. وليست صراعاً مع قديم وماضٍ تقليدي. وذلك بالرغم من أن في القديم
والماضي والتقليدي، ما هو أشدّ حداثة حين ينزل إلى التطبيق.
فأنت حين تناهض
سيطرة الغرب العسكرية والسياسية والاقتصادية والنهبية، ليس في الماضي فحسب، وإنما
أيضاً، في الحاضر، وتقابلها بمساواة وعدالة بين الشعوب، فأنت تطرح حداثة، حتى
تاريخياً أكثر حداثة من سيطرة قلة من الدول على بلدان العالم وشعوبه. فهذه
السيطرة، وما اتسّمت به من ماضٍ هي قديمة، أكل الدهر عليه وشرب. وذلك مقابل نظام
عالمي جديد يتسّم بالمساواة والعدالة، ويراعي مصالح شعوب العالم.
وكذلك حين تطرح
حداثة (حداثات) عالمية تقيم العدل بين حرية الأفراد وحريّة المجتمعات في تقرير
مصيرها بأنفسها، فأنت تطرح حداثة أشدّ نضارة وجدة، فيما حداثة دمرت الإنسان، ودمرت
الطبيعة والمناخ والبيئة، هي التي يجب أن توصم بالماضي والقديم والمهترئ