
راهن سوريا ومستقبل لبنان

راهن سوريا ومستقبل لبنان
د. ساسين عساف
يبدو في ظاهر ما يجري في سوريا بعد الإطاحة بالنظام السابق أنّ تنفيذ مشروع
الشرق الأوسط الجديد وجد لحظته التاريخية المؤاتية بعد الحرب على غزّة ومحاولة
تدمير نهائي لما تبقّى من قوى فلسطينية مقاومة لتصفية القضيّة، وبعد الحرب على
جنوب لبنان ومحاولة القضاء نهائيّا على مقاومة حزب الله، ووجدها تالياً في تراجع
محور الممانعة البادي للعيان بانسحاب إيران وروسيا من سوريا وبالذهاب نحو تفاهمات
مع الإدارة الأميركية بشأن ما لإيران من مصلحة في حماية مشروعها النووي وفي ما
لروسيا من مصلحة في أوكرانيا، ووجدها أيضاً في الضعف العربي المتزايد والمنخرط في
اتفاقات أبراهام والغارق في التوتّرات المذهبية.
سوريا دولة محورية بين لبنان والعراق وفلسطين والأردن. تفكيكها (بالتفكيك
لا أعني التقسيم إلى أن تتوضّح الصورة بشكل جليّ) تتداعى له دولها كافة ومنها
بالطبع دولة لبنانية فاشلة ومفكّكة أصلاً. وإذا كان هذا حالها قبل ما آلت إليه
الأوضاع في سوريا من يصدّق أنّ نهايتها ستكون مختلفة؟! التعامي أو التجاهل أو
الجهل بطبيعة العلاقات بين لبنان وسوريا التي تتجاوزعضويّاً الأنظمة والحكومات
وطبيعة موقعهما معاً الجيوإستراتيجي والجيوسياسي في الإستراتيجيات والسياسات الأميركية/الإسرائيلية، يذهب بأصحابه إلى
الوهم بأنّ إعادة توحيد الدولة اللبنانية
سيتمّ على أنقاض الدولة السورية
المفكّكة إلّا إذا كان ثمّة من هم منخرطون في مشروع التفكيك وعاملون فعلاً
لمزيد منه والتشظّي.
ثمّة من يعمل في الدول الثلاث لجعل الفدرلة السياسية أمراً واقعاً.
والفدرلة السياسية المستتبعة بالفدرلة الجغرافية والأمنية ليست مجرّد أمر عادي
وطبيعي كما يدّعي هؤلاء تشبّهاً بدول تعتمدها،
إنّما هي، في رأينا، قضاء عليها فينقلب مفهوم الفدرلة من عامل توحيد، كما
هو ادّعاؤهم، إلى عامل تجزئة كما هو اعتقادنا المبني على واقع الإحتلالات
لدولنا الثلاث، ولوجود عدوّ لها، له
شركاؤه الإقليميين والدوليين الطامعين معه في السيطرة واقتسام الأرض والثروة،
ولديهم وفرة من الخطط المعدّة والمعلنة أقلّه تاريخياً منذ سبعينيات القرن الماضي
حتى اليوم، ولعلّ أخطرها ثلاث: خطة كيسينجر وخطة أودد ينون وخطة برنارد لويس.
إدّعاؤهم بشأن الفدرلة التوحيدية بعضه وهم
أكاديمي قائم على مقارنات مغلوطة للزمان
والمكان، ولثقافة المجتمعات المعنيّة بها، وللروابط القائمة بين مكوّناتها، وبعضه
دجل سياسي مستند إلى هذه الخطط والتبعيّة لأصحابها، أمّا اعتقادنا فيشكّل أطروحة
في فقه الحقائق والوقائع التي أصبحت تعلن
عن نفسها بشكل واضح ومتزايد في الحروب المتتالية على دولنا الثلاث.
إنّ واقع التجزئة بدأت تكتمل
معالمه من خلال ما يجري في سوريا. ويبدو أن خارطة الطريق إليه هي نتيجة حرب دولية
وإقليمية مستمرّة على سوريا منذ العام 2011 وإلاّ لكانت الدول الرافضة لهذه الحرب،
شرقاً وغرباً، قد سارعت الى مساعدة السوريين لإيجاد التسوية المطلوبة قبل الإغراق
المستفيض في لعبة التدمير الشامل.
حينذاك قال كيسينجر ما لم تدمّر سوريا من الداخل يستحيل إحكام السيطرة
عليها، بعد أن تمّت السيطرة على العراق، وتالياً على ما تبقّى من دول لم يعبر
إليها ما أسموه زوراً "الربيع العربي" ( وكم هو مضحك اللعب بعقول الناس حين ادّعى البعض أنّ
"الربيع العربي" بدأ من لبنان). بهذا المعنى ومن خلال المنظور
الكيسينجري التخريبي كنّا نرى الى سوريا دولة مقاومة وممانعة. وبهذا المعنى كنّا
ندعو الى فهم ما يجري بأنّه يشظّي هويّتنا
العربية إلى هويّات طائفية ومذهبية وإتنية
متصادمة ومتآكلة.
لتفادي الآثار المدمّرة للراهن
السوري على الدولة اللبنانية بمزيد من التفكّك والتدمير لا بدّ من بناء وعي سياسي
لبناني كفيل بعدم جعل لبنان امتداداً جيو-استراتيجياً وجيو-سياسياً يحقّق المشروع
الإسرائيلي التاريخي باصطناع كيانات مذهبية هشّة تبقيه كياناً موحّداً لدولة
يهودية صافية.
لذلك يواجه اللبنانيون المؤمنون بدولة لبنانية وحدويّة وحديثة ومدنية
تحدّياً عنوانه بناؤها بالوقوف معاً، كلّ من موقعه، فكريّاً ونضاليّاً،على خطّ
التناقض الجذري والمواجهة الشاملة للعقل السياسي التفكيكي التدميري الذي يدير
مشاريع طائفيّة أو مذهبيّة خاصّة.
نحن من المعوّلين على رفع هذا التحدّي بقوّة المؤمنين بوحدة الأرض والشعب
والدولة القوّة التي يديرها عقل سياسي سلمي محاور لخلق حيوية خاصّة بتنقية الذاكرة
والمصالحة والسلام الحقيقي بين اللبنانيين، حيويّة تقرّب وجهات النظر وتعزّز
الترابط الداخلي كبحاً للطموحات المجنونة.
هنا الكلّ مطلوب إليه أن يتحرّر من إساءاته للدولة الواحدة وأن يعيد تقييم
علاقاته بها لكي تتهيّأ له فرص الإسهام في
إعادة بنائها على قاعدة تفاهم وطني عنوانه إصلاح جذري في الدستور في النظام
الإقتصادي والإجتماعي وفي إدارة الحكم وتكوين السلطة.
إنّ التفكّك الحاصل يمكن تجاوزه بإبقاء المسار الوحدوي مفتوحاً أمام من
يلبّي بفكره وعمله حاجة الشعب اللبناني الى السلام والوحدة والتفاهم على إنقاذ
أبنائه من التشرّد والهجرة وعلى سيادته وحقّه في بناء دولته المستقرّة ونظام حكمه
الديموقراطي وفي التصدّي لكلّ التحالفات التي شدّت رحالها الى عواصم الإستعمار
إستجلاباٍ لنصر موهوم واستجداء لدعم لا يوفّر سوى المزيد من اشتعال الحروب
والإغراق في المآىسي المفتوحة.
الوحدويّون من أهل الرويّة والإعتدال والتعقّل والإنصاف وبعد النظر وحسن
التدبير وسلامة التفكير يتحمّلون مسؤوليّة صرف الناس عن الإنقسامات المذهبية
وتكريسها مشاريع انفصال أو فدرلة.
إنّ اعتماد منطق التفاهم الوطني والمصالحة الوطنية يقرّب الوحدويين الى
الناس فلا مذهبة لخطاب أو ممارسة، ولا مصادرة لحقّ، ولا إكراه لمختلف، ولا تجاهل
أو اقتلاع لآخر، ولا استعلاء عليه، أو مغالبة.
هذه هي القواعد التي تبنى عليها "قوّة السلام اللبناني والوحدة
اللبنانية". وتاريخ لبنان يثبت أنّه في الكثير من مراحله الصّعبة عرف رجالاً
في السياسة كانوا عناوين في العقلانية والإتّزان وهم اليوم موجودون فيه بوفرة.
عليهم البارحة قبل اليوم واليوم قبل الغد القيام بمبادرات ريادية تساعد في تشكيل
"قوّة السلام اللبناني والوحدة اللبنانية".
قد يجد البعض في طرحنا احتمالاً غير وارد في اللحظة الحاليّة ربطاً براهن
سوريا والعراق ولبنان ولكنّه، في رأينا، الإمكان الوحيد المتاح والمتبقّي أمام
اللبنانيين الوحدويين لإنقاذ دولتهم من الفشل الذي هي فيه والذي أفضت في أسبابه في
كتاب لي، صدر مؤخّراً عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "أفكار في الدولة
اللبنانيّة، وقائع في الفشل وتطلّعات إلى البناء."
وعليه نقول إنّ بناء دولة وحدوية في لبنان يكتمل ببناء دولة سوريّة وحدويّة
ومستقرّة بإرادة شعبها وخياره الديموقراطي السلمي.
من هنا دعوتنا الى سائر القوى اللبنانية
ليتّبعوا سياسة أكثر وعياً وحكمة إزاء الوضع في سوريا، فبدلاً من التنافس
على التحريض وإذكاء النار فيها حريّ بالحرصاء على أنفسهم قبل حرصهم على سوريا أن
يسهموا في التهدئة وأن يجهدوا ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً لنصرة وحدتها.
ليعلم اللبنانيّون جميعاً أنّ عواقب تفكيك الدولة السورية ستكون مدمّرة على
الدولة اللبنانيّة بما لا يقاس.
لذلك نقول للجميع لقد حان وقت التفكير الجدّي بمعنى تفكيك الدولة السورية
ونتائجه إذا اتّضحت الصورة في هذا الإتّجاه.
هذا الكلام هو برسم من يرغبون بإنقاذ أنفسهم من شرّ المصالح الدولية وشراهة
قوى إقليمية طامعة، منها من يسعى لدولة
بلا حدود، ومنها من يسعى لتثبيت نفوذ، ومنها من يسعى وراء زمن مفقود.
*********************